فصل: الفصل الثامن والسبعون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الخامس والسبعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني‏:‏ الخلوة مهر بكر الفكر وسلم معراج الهمة، حريم العزلة مصون من عيب غيث عبث، إذا خلت دار الخلوة عن الصور تفرغ القلب لملاحظة المعاني‏.‏

أوحشتني خلـواتـي *** بك من كـل أنـيس

وتفردت فعـاينـتـك *** بالغيب جـلـيسـي

ودعاني الوجد والحب *** إلى المعنى النفـيس

فبدا لي أن مهر الحب *** أنفاس الـنـفـوس

فكتبت العهد للحـب *** على طرس الرسيس

يا هذا، إذا رُزقت يقظة فصنها في بيت عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهابة، احذر معاشرة الجهال فإن الطبع لص، لا تصادقن فاسقاً، فإن من خان أول منعم عليه لا يفي لك، يا أفراخ التوبة لازموا أوكار الخلوة فإن هر الهوى صيود، إياك والتقرب من طرف الوكر والخروج من بيت العزلة حتى يتكامل نبات الخوافي وإلا كنت رزق الصائد، الأنس بالأنس ربق، المخالطة توجب التخليط وأيسر تأثيرها تشتيت الهم‏.‏

أقل ما في سقوط الذئب في غنـم *** إن لم يصب بعضها أن ينفز الغنم

قطع العلائق أصل الأصول، فرغ لي بيتاً أسكنه، إن الطائر إذا كان زاقاً لم يرسل في كتاب، تأملوا إلى الفرس إذا قدم إلى الماء الصافي كيف يضرب بيديه فيه حتى يتكدر، أتدرون لم‏؟‏ لأنه يرى صورة نفسه في الماء الصافي وصورة غيره فيكدره حتى لا تتبين فيه الصور فيتهنى بالشرب، لا يظهر في خلوة المتيقظ إلا الحق، كان أويس يهرب من الناس فيقولون مجنون، وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حلية حلته فقوي توق عمر وكان في كل عام يسأل عنه أهل اليمن‏.‏

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا *** علينا فدق أمسى هوانا يمانـيا

نسائلكم هل سال نعمان بعدنـا *** وحب إلينا بطن نعمـان واديا

لما كانت آخر حجة حجها عمر قام على أبي قيس فنادى بأعلى صوته أفيكم أويس‏؟‏ للشريف الرضي‏:‏

وإني للشوق مـن بـعـدهـم *** أراعي الجنوب رواحاً ومغدى

وأفرح من نحو أوطـانـهـم *** بغيث يُجلجل بـرقـاً ورعـدا

إذا طلع الركب يمـمـتـهـم *** أحيي الوجوه كهـولاً ومُـرْدا

وأسألهم عن عقيق الـحـمـى *** وعن أرض نجدٍ ومن حل نجدا

نشدتكم الـلـه فـلـيُخـبـرنَّ *** من كان أقرب بالرمل عهـدا

*** هل الدار بالجـزع مـأهـولةٌ *** أنار الربيع علـيهـا وأسـدى

وهل جلب الغـيث أخـلاقـه *** على محضرٍ من زرود ومبدا‏؟‏

كان أويس يأتي المزابل إذا جاع فأتاها يوماً فنبح عليه كلب فقال يا كلب لا تؤذ من لا يؤذيك، كل مما يليك، وآكل مما يليني فإن دخلت الجنة فأنا خير منك، وإن دخلت النار فأنت خير مني‏.‏

ذل الفتى في الحب مكرمة *** وخضوعه لحبيبه شـرف

كان الصبيان يرمونه بالحجارة، والعقلاء عند نفوسهم يقولون مجنون والمحبة تنهاه أن يفسر ما استعجم‏.‏

أبثهم وجدي وهم بـي أعـلـم *** وأرجو شفائي منهم وهم هـم

وكم كدت من شوق أبين من هم *** ويمنعني من ذاك خوفي منهم

وكم عذلوني فيهم غـير مـرة *** فقلت لهم والله بالصدق أعلـم

إذا كان قلبي موثقاً في حبالكـم *** وجسمي لديكم كيف أفهم عنكم

فإن شئتم أن تعدلوا فتوصـلـوا *** إلى أن يعود القلب ثم تكلمـوا

صاحب أهل الدين وصافهم، واستفد من أخلاقهم وأوصافهم، واسكن معهم بالتأدب في دارهم وإن عاتبوك فاصبر ودارهم، إن لم يكن لك مكنة البذر ولم تطق مراعاة الزرع فقف في رفقة ‏"‏وإذا حضر القسمة أولوا القُربى‏"‏ أنت في وقت الغنائم نائم، وقلبك في شهوات البهائم هائم، إن صدقت في طلابهم فانهض وبادر، ولا تستصعب طريقهم‏.‏ فالمعين قادر‏.‏ تعرض لمن أعطاهم وسل فمولاك مولاهم، رب كنز وقع به فقير، ورب فضل فاز به صغير، علم الخضر ما خفي على موسى، وكشف لسليمان ما غطي عن داود‏.‏

يا هذا، لا تحتقر نفسك فالتائب حبيب، والمنكسر مستقيم، إقرارك بالإفلاس غنى، اعترافك بالخطأ إصابة، تنكيس رأسك بالندم رفعة، عرضت سلعة العبودية في سوق البيع فبذلت الملائكة نقد ‏"‏ونحن نُسبِّح‏"‏ فقيل ما تؤثر سكة دراهمكم، فإن عجب الضارب بسرعة الضرب أوجب طمساً في النقش فقال آدم‏:‏ ما عندي إلا فلوس إفلاس، نقشها ‏"‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏"‏ فقيل هذا الذي ينفق على خزانة الخاص، أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين‏.‏

واستعذبوا ماء الجفون فعذبوا *** الأسرار حتى درت الآماق

يا معاشر المذنبين إن كان يأجوج الطبع، ومأجوج الهوى، قد عاثوا في أرض قلوبكم ‏"‏فأعينوني بقوةٍ أجعلْ بينكم وبينهم ردما‏"‏ اجمعوا لي عزائم قوية تشابه زبر الحديد، وتفكروا في خطاياكم لتثور صعداء الأسف فلا أحتاج أن أقول ‏"‏انفخوا‏"‏ شيدوا بنيان العزائم بهجر المألوف، ليستحجر البناء فنستغني أن نفرغ عليه قطرا، هكذا بناء الأولياء قبلكم، فجاء الأعداء ‏"‏فما استطاعوا أن يظهروه‏"‏‏.‏

ليس عزماً ما مرض المرء فيه *** ليس هماً ما عاق عنه الظلام

الجد جد فما تحتمل الطريق الفتور، ضاقت أيام الموسم، فجعجعوا بالإبل كذا أسيد الضبي إذا عوتب في كثرة بكائه يقول‏:‏ كيف لا أبكي وأنا أموت غداً‏؟‏ والله لا أبكين فإن أدركت بالبكاء خيرا، فمن الله علي وإن كانت الأخرى فما بكائي في جنب ما ألقاه‏؟‏ كانت عابدة لا تنام من الليل إلا يسيراً فعوتبت في ذلك فقالت‏:‏ كفى بطول الرقدة في القبور رقادا‏.‏

أيها العذال لا تعـذلـوا *** إنما العذل لمن يقـبـل

وأرى ليلي لا ينقـضـي *** طال ليلي والهوى أطول

تزوج رباح القيسي امرأة فرأته نائماً طول الليل فقالت‏:‏ ليت شعري من غرني بك يا رباح‏؟‏

يا عقيق الحمى حمى الله مغناك *** وروى ثراك من مزن دمـع

من لصب يشوقه لامح البـرق *** فيرتاح قـلـبـه لـلـجـزع

يا خليلي ما أنت لي بـخـلـيل *** ورفيق إن لم تقف بالـربـع

هذه طريقهم فأين السالك‏؟‏ هذه صفاتهم فأين الطالب‏؟‏

هذي المنازل والعقـيق *** فأين سلمى والـخـيام

لم يبق مذ صاحوا النوى *** لميتم فـيهـا مـقـام

الفصل السادس والسبعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أيها المقصر عن طلب المزاد، كيف تدرك المعالي بغير اجتهاد‏؟‏ أين أهل السهر من أهل الرقاد‏؟‏ أين الراغبون في الهوى من الزهاد‏؟‏ رحل المتيقظون مستظهرين بكثرة الزاد كل جواد لهم يعرف الجواد فساروا فزاروا والكسلان عاد‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

يا قلبِ ما أنت من نجدٍ وساكنِـهِ *** خلَّفتَ نجداً وراء المدلج الساري

أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبـهـم *** من الحمى في أُسَيحاق وإطـمـار

تفوحُ أرواحُ نجـدٍ مـن ثـيابـهـم *** عند القدوم لقرب العـهـد بـالـدار

يا راكبان قفا لي فاقـضـيا وطـري *** وحدثاني عـن نـجـد بـأخـبـار

هل رُوِّضَتْ قاعة الوعساء أم مطرت *** خميلةُ الطاح ذات البان والـغـاري

أم هل أبيتُ ودارٌ عـنـد كـاظـمةٍ *** داري وسمّار ذاك الحي سـمـاري

فلم يزالا إلى أن نَمَّ بـي نـفَـسـي *** وحدّثَ الركبَ عني مدمعي الجـار

لما صفت خلوات الدجى، نودي آذن الوصول أقم فلاناً وأنم فلاناً خرجت بالأسماء الجرائد، وفاز الأحباب بالفوائد، قال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ قلت لامرأتي رابعة وقد قامت من أول الليل قد رأينا أبا سليمان وتعبدنا معه، ما رأينا من يقوم من أول الليل‏.‏ فقالت‏:‏ سبحان الله مثلك يقول هذا‏؟‏ أما أقوم إذا نوديت ‏.‏ للمتنبي‏:‏

تقولين ما في الناس مثلـك وامـق *** جدي مثل من أحببته تجدي مثلـي

ذريني أنل ما لا ينال من العـلـى *** فصعب العلى في الصعب والسهل

تريدين إدراك المعالـي رخـيصة *** ولا بد دون الشهد من غبر النحـل

لما دارت كؤوس النوم على أفواه العيون، فسكرت بالشراب الألباب فطرحت الأجساد على فراش ‏"‏يَتَوَقَّى‏"‏ صاحت فصاحة الحب بالمحب‏:‏ كل مسكر حرام، فلما نفخ في صور الإيقاظ في أبان ‏"‏وَيُرْسِلُ الأُخرى‏"‏ قام أموات النوم وقد رحل سفر الوصال‏.‏ فلم يروا إلا آثار القرب في مناخ الأحباب وأثا في ‏"‏تتجافى‏"‏ ستر القوم قيامهم بالليل فستر جزاءهم أن يطلع عليه الغير ‏"‏فلا تعلمُ نفسٌ‏"‏ فلو عانيتهم وقد دارت كؤوس المناجاة بين مزاهر التلاوة فأسكرت قلب الواجد، ورقمت في صحائف الوجبات تعرفهم ‏"‏ بسيماهم ‏"‏‏.‏

وتمشت في مفاصلهـم *** كتمشي البرء في السقم

اشتهر بقيام الليل كله، وصلاة الفجر بوضوء العشاء، سعيد بن المسيب وصفوان سليم ومحمد بن المنكدر المدنيون وفضيل ووهب المكيان طاوس ووهب اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم الكوفيان وأبو سليمان الداراني وأبو جابر الفارسيان وسليمان التيمي ومالك بن دينار ويزيد الرقاشي وحبيب العجمي ويحيى البكائي وكهمس ورابعة البصريون‏.‏

قالت أم عمرو بن المنكدر‏:‏ يا بني أشتهي أراك نائماً‏:‏ فقال يا أماه إن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني وما قضيت منه مأربي‏.‏ وصحب رجل رجلاً شهرين فما رآه نائماً فقال مالك‏:‏ لا تنام‏؟‏ فقال‏:‏ إن عجائب القرآن أطرن نومي ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى‏.‏

لا تلحه إن كنت من سجـرائه *** عذل المحب يزيد في إغرائه

ودع الهوى يقضي عليه بحكمه *** ما شاء فهو مسلم لقـضـائه

فشقاؤه فيمـا يراه نـعـيمـه *** ونعيمه في ذاك عين شقـائه

كحلت مآقيه بطول سـهـاده *** وحنت أضالعه على برحـائه

دنف ببابل جسـمـه وفـؤاده *** بالخيف واعجباً لطول بقـائه

قال سفيان إن لله ريحاً تسمى الصبحية، مخزونة تحت العرش تهب عند الأسحار فتحمل الأنين والاستغفار‏.‏

للمهيار‏:‏

يا نسيم الريح من كـاظـمةٍ *** شد ما هِجت الأسا والبُرحا

الصبا إن كان لابد الصّـبـا *** إنها كانت لقلبـي أروحـا

أذكرونا ذكرنا عـهـدكُـمُ *** ربَّ ذكرى قرَّبَت من نزحا

وارحموا صبّاً إذا غنّى بكـم *** شربَ الدَّمع وعافَ القدَحا

يا طويل النوم فاتتك مدحة ‏"‏تتجافى‏"‏ وحرمت منحة ‏"‏والمستغفرين‏"‏ ولست من أهل عتاب فإذا جنة الليل نام عني، ليس في ليل الهجر منام ومتى رأيت محباً ينام‏؟‏ للمتنبي‏:‏

فإن نهـاري لـيلةٌ مـدلـهـمَّةٌ *** على مقلة من فقدكم في غياهب

بعيدةِ ما بين الجفون كـأنـمـا *** عقدتم أهالي كلِّ هدبٍ بحاجـب

ثورت في الليل الحداة وعكمت أحمال الأعمال وسارت رفقة المتهجدين وترنم كل ذي صوت بشجو، وأنت في الرقدة الأولى بعد‏.‏

لم يخل مرجان دمع من عقيق دم *** شوق بلا عبرة ساق بـلا قـدم

يا هذا، كيف تطبق السهر مع الشبع‏؟‏ كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل‏:‏

دع الهوى لأناسٍ يعـرفـون بـه *** قد مارسوا الحب حتى لان أصعبه

بلوت نفسك فيما لست تـخـبـره *** والشيء صعبٌ على من لا يجربه

فاقن اصطباراً وإن لم تستطع جلداً *** فرب مدرك أمر عز مطـلـبـه

أحنو الضلوع على قلب يحيرنـي *** في كل يوم ويعييني تـقـلـبـه

تناوح الريح من نـجـد يهـيجـه *** ولا مع البرق من نعمان يطربـه

الفصل السابع والسبعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

إذا هبت رياح المواعظ أثارت من قلوب المتيقظين غيم الغم على ما سلف، وساقته إلى بلد الطبع المنحرف برعد الوعيد وبرق الخشية، فتترقى دموع الأحزان من بحر قعر القلب إلى أوج الرأس فتسيل في ميازيب الشئون على سطوح الوجنات فإذا أعشب السر اهتز فرحاً بالإنابة‏.‏

محت بعدكم تلك العيونُ دموعَهـا *** فهل من عيون بعدها نستعيرهـا

رحلنا وفي سر الفـؤاد ضـمـائرٌ *** إذا هب نجدي الصبا يستثـيرهـا

أتنسى رياض الغَورِ بعد فراقـهـا *** وقد أخذ الميثاق منك غـديرَهـا

يجعده مـر الـشـمـال وتـارة *** يغازله كر الصبـا ومـرورهـا

الأهل إلى شم الخزامى وعرعـر *** وشيح بوادي الأثل أرض نسيرها

ألا أيها الركب العراقي بـلّـغـوا *** رسالة محزونٍ خواه سطـورهـا

إذا كتبت أنفاسه بعـض وجـدهـا *** على صفحة الذكرى محاه زفيرها

ترفق رفيقي هل بدت نار أرضهم *** أم الوجد يذكي نـاره ويثـيرهـا

أعد ذكرهم فهو الشفـاء وربـمـا *** شفى النفس أمر ثم عاد يضيرهـا

ألا أين أزمان الوصال التي خلـت *** خلا ما حلا منها وجاء مريرهـا

سقى الله أيّاماً مـضـت ولـيالـياً *** تضوع رياها وفاح عـبـيرهـا

من تفكّر في تفريطه أنَّ، ومن تذكر أيام وصله حنّ، من سمع صوت الحمام ظنه لحسن الصوت، كلا بل لذكر ما مر من العيش، إذا نظر الأسير إلى نفسه في ضيق القد ولم يقدر على ضك القيد قطع حزنه حيازيم القلب فنفسه بالأسف في آخر نفس‏.‏

تهيم إذا ريح الصبا نسمـت لـهـا *** وتبكي إذا الورقاء في الغصن غنت

إذا جذب الصبح اللثـام تـأوهـت *** وإن نشر الليل الجـنـاح أرنـت

كان داود يؤتى بالإناء ناقصاً فلا يشربه حتى يتمه بالدموع‏.‏

يا ساقي القوم إن دارت علي فلا *** تمزج فإني بدمعي مازج كأسي

كان في خد عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء وكان في وجه ابن عباس كالشراكين الباليين من الدمع‏.‏

للمهيار‏:‏

ألا من لعين من بكاها على الحمى *** تجف ضروع المزن وهي حلوب

بكت وغدير الحي طام وأصبحت *** عليه العطاش الحائمات تـلـوب

وما كنت أدري أن عينـاً ركـية *** ولا أن ماء المـاقـيين شـروب

كان الحسن يبكي حتى يرحم، وكان الفضيل بن عياض يبكي في النوم حتى ينتبه أهل الدار ببكائه‏.‏ وكان عطاء يبكي في غرفة له حتى تجري دموعه في الميزاب، فقطرت يوماً إلى الطريق على بعض المارين فصاح يا أهل الدار‏:‏ أماؤكم طاهر‏؟‏ فصاح عطاء‏:‏ اغسله فإنه دمع من عصا الله‏.‏

وممن لبه مع غيره كيف حاله *** ومن سره في جفنه كيف يكتم

وقالوا لعطاء السلمي‏:‏ ما تشتهي‏؟‏ فقال‏:‏ أشتهي أن أبكي حتى لا أقد أن أبكي‏.‏

وإن شفائي عبـرة مـهـراقة *** فهل عند رسم دارس من معول

كان أشعث الحداني وحبيب العجمي يتزاوران فيبكيان طول النهار وكان حزام وسهيل وعبد الواحد كل واحد في بيت يتجاوبون بالبكاء‏.‏

للخفاجي‏:‏

ركب هوى تجاذبوا حديثه *** فاترعوا من الغرام أكؤسا

واسبلوا من الجفون أدمعاً *** ظننتها ماءً وكانت أنفسـا

لقد سمعت في الرحال أنَّةً *** أظنها نشطة وجد حبسـا

البكاء موكل بعيون الخائفين كلما همت بفتح طرف لتنظر إلى طرف من طرف الدنيا طرفته دمعة، قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏عينان لا تمسّهما النار، عين بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله‏"‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ لو بكي عبد من خشية الله لرحم من حوله ولو كانوا عشرين ألفاً‏.‏ وقيل لثابت البناني عالج عينيك ولا تبك‏.‏ فقال‏:‏ أي خير في عين لا تبكي‏.‏

لصردر‏:‏

إذا لم أفز منكم بوعـدٍ ونـظـرةٍ *** إليكم فما نفعي بسمعي وناظري

متى غنت الورقاءُ كانت مدامتـي *** دموعي وزفراتي حنين مزاهري

البكاء لأجل الذنوب مقام المريد، والبكاء على المحبوب مقام العارف‏.‏

روحي إليك بكلها قد أجمعت *** لو كان فيك هلاكها ما أقلعت

تبكي عليك بكلها عن كلـهـا *** حتى يقال من البكاء تقطعت

فانظر إليها نظرة بتعـطـفٍ *** فلطالما متعتها فتمـتـعـت

إخواني‏:‏ حر الخوف صيف الذوبان وبرودة الرجاء شتاء الغفلة‏.‏ ومن لطف به كان زمانه كله فصلا‏:‏

عين تسر إذا رأتك وأختهـا *** تبكي لطول تباعدٍ وفـراق

فاحفظ لواحدة دوام سرورها *** وعِد التي أبكيتها بـتـلاق

سبحان من روح أرواح الخائفين بريح الرجاء الضعيف، إذا لم يتلاف تلف لا بد للمكروب من نسيم بارد‏:‏

بالله يا ريح الـشـمـال *** إذا عزمت على الهبوب

فتحملي شكوى المحـب *** المستهام إلى الحبـيب

قرب الضنى من مهجتي *** لما بعدت عن الطبـيب

وقفت عتبة الغلام ليلة على ساحل البحر إلى الصباح يقول‏:‏ إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب‏.‏ يا قومنا المحب مع بذل روحه يرتاح إلى المنى وإلى لعل لأنه لا يرى ما بذل، يصلح ثمناً لما طلب‏:‏

بقلبي منهـم عـلـق *** ودمعي فيهم عـلـق

وبي من حبهم حـرق *** لها الأحشاء تحتـرق

وما تركوا سوى رمقي *** فليتهم لـه رمـقـوا

كان عبد الواحد يقول لعتبة‏:‏ أرفق بنفسك فيبكي ويقول‏:‏ إنما أبكي على تقصيري‏.‏

قالوا تصبر فما هذا الجنون بهـم *** فقلت يا قوم ليس القلب من قبلي

واعجباً، أو يقدر المحب على التصرف في قلبه‏؟‏ كلا دين المحب الجبر‏.‏ لأبي الشيص الخزاعي‏:‏

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متـأخـر عـنـه ولا مـتـقـدم

أجد المـلامة فـي هـواك لـذيذة *** حباً لذكرك فليلـمـنـي الـلـوم

دخلوا على رابعة فقالت‏:‏ لقد طالت عليَّ الأيام بالشوق إلى لقاء الله تعالى‏:‏ ودخلوا عليها مرة أخرى فقالوا‏:‏ أتشتاقين إليه‏؟‏ فقالت‏:‏ هو حاضر معي‏.‏ قالوا‏:‏ يا رابعة هذا ضد الأول، أجابت بلسان الحال‏:‏ هكذا تحير المحب‏.‏

ومن عجب أني أحـن إلـيهـم *** وأسأل عنهم من أرى وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادهـا *** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

إذا بدت رابعة في القيمة مختمرة وقعت لهيبة خمارها طيالسة العلماء، كان سفيان يتأدب لرابعة كان هو صاحب مخزن العلم فتردد إلى القهرمانة لأن لها دخولاً أكثر منه رحل الملاك وبقي المدعون، أترى أي طريق سلكوا‏؟‏ نحن ملكنا والقوم ملكوا‏.‏

للشريف الرضي، وللمهيار‏:‏

يا صاحبَيْ رَحْلي قِفـا *** فسائلا لي الـدِّمَـنـا

وامطرا دمعـكـمـا *** ذاك الكثيب الأيمـنـا

ما الدار عندي سكـن *** إذا عدمت السـكـنـا

كان فـؤادي وهــمُ *** فظعنوا فـظَـعِـنـا

مُنىً لعينـي أن تـرى *** تلك الثلاث من منـى

ويوم سلـع لـم يكـن *** يومي بسلـع هـينـا

ويوم ذي الـبـــان *** تبايعنا فحزتُ الغبنـا

كان الغرام المشتـرى *** وكان قلبي الثـمـنـا

وبـارق أشـيمـــه *** كالطرف أغضى ورنا

ذكـرنـي الأحـبـاب *** والذكرى تهيج الحزنا

من بطن مر والسـرى *** تؤام عسـفـان بـنـا

وبالعـراق وطـرى يا *** بعـد مـا لاح لـنـا

الفصل الثامن والسبعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

المحب يتعلق بكل شيء ويهيم في كل واد، على القلق يمشي وعلى الحرق يمسي‏:‏

بقيت على الأطلال من بعدكم ملقى *** أهيم بكمُ غرباً وأطلبكـم شـرقـا

وأسأل أنفاس الـرياح إذا جـرت *** يمانية عنكم وأستنبـؤ الـبـرقـا

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء ويبدو إلى التلاع‏.‏ مقاساة الخلق ظلمة، والحبيب لا يتجلى إلا في خلوة‏.‏

وأخرج من بين البيوت لعلـنـي *** أحدث عنك النفس في السر خاليا

المحب مقتول بلا سيف ملقى في منى المنى لا عند الخيف، إذا سمع صوت منشد قد غرد خلع لجام الصبر وتشرد‏.‏

ولما غـرد الـحـادي *** وسار القوم في الوادي

وراح القلب يتبعـهـم *** بلا مـــاء ولا زاد

رأيت قتيل بـينـهـم *** صريعاً ما لـه فـاد

أول علامات المحبة دموع العين وأوسطها قلق القلب ونهايتها احتراقه‏.‏

لقيس ذريح‏:‏

هل الحب إلا زفرة بعد زفـرة *** وحر على الأجساد ليس له برد

وفيض دموع تستهـل إذا بـدا *** لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو

قال ذو النون‏:‏ لقيت امرأة متعبدة فوعظتني فبكيت فقالت‏:‏ لم تبكي‏؟‏ قلت لها‏:‏ أو العارف لا يبكي‏؟‏ قالت‏:‏ إذا بكى استراح ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه‏.‏

لا وحبيك لا أصافـح *** بالدمـع مـدمـعـا

من بكى شجوه استراح *** وإن كان مـوجـعـا

كبـدي فـي هـواك *** أهون من أن تقطعـا

لم تدع سورة الضنـى *** فيَّ للسقم موضـعـا

المحبة نزالة وقوتها المهج‏.‏ كانت أضلاع عمر بن عبد العزيز تعد، وكان جسد سرى كالشن‏.‏ وقف أبو يزيد في المحراب فكبر فتقعقعت عظامه‏.‏

وإني لتعروني لذكراك روعة *** لها بين جلدي والعظام دبيب

فما هو إلا أن أراها فـجـأة *** فأبهت حتى لا أكاد أجـيب

إذا رأيت محباً ولم تدر لمن‏؟‏ فضع يدك على نبضه‏.‏ وسم كل من تظنه المحبوب، فإن النبض لا ينزعج إلا عند ذكره ‏"‏إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم‏"‏‏.‏

للمهيار‏:‏

ألا فتى يسأل قلبي مـالـه *** ينزو إذا برق الحمى بداله

فهب يرجو خبراً من الحمى *** يسنده عنه فمـا روى لـه

أراد نجداً معه فانتقـضـت *** إرادة هاجت له بلـبـالـه

وانتسم الريح الصبا ومن له *** بنفحة من الصبا طوبى له

المحب في قلق لا سكون، والعجب أنه يتكلف الثبات‏.‏

الوجد يحركه والليل يقلـقـه *** والصبر يسكته والحب ينطقه

ويستر الحال عمن ليس يعذره *** وكيف يستره والدمع يسبقـه

المحب مبالغ في كتمان وجده، غير أن الدمع نمام‏.‏

آفة السر من جفـو *** ن دوام دوامـــع

كيف يخفى من الدمو *** ع الهوامى الهوامع

كان أكثر القوم، إذا جائه البكاء دافعه، اتقاء اللاحي له، فيغلبه فلا حيلة له‏.‏

للمتنبي‏:‏

حاشى الرقيب فخانته ضمـائره *** وغيَّض الدمع فأنهلت بـوادره

وكاتم الحب يوم البين مفتـضـح *** وصاحب الوجد لا تخفى سرائره

إذا أقلقه الحب ضج، وإذا أرقه الشوق عج، وكلما حبس دمعه ثج، وإذا استوحش من الخلق هج، فالهموم تنوبه من كل فج، حشيت قلوب القوم بالغموم، حشو الورد في قوارير الزور، وكلما التهبت نار الحذر جرت عيون الدمع في جداول العيون فرشت على الخدود ماء، ما ماء الورد عنده بطيب‏.‏

لأبي المعتز‏:‏

أسر القلب فأمسى لـديه *** فهو يشكوه ويشكو إلـيه

عذب الأحباب بالهجر حيناً *** فهم يبـكـون بـين يديه

واعجباً لضعف بدن العارف كم يحمل‏؟‏ وآسفا لقلب المحب كم يصبر‏.‏

نعم تحمل الأشواق والعيس ظلع *** ويمشي الهوى والناقلات قعود

ما أقوى جلد جلد القلب على نار الحب، كأنه قد ألبس ريش السمندل على أنه لا بد من لذع يبين أثره في صعود الصعداء دلالة تدل على الحريق، اشتط اللهيب فشاطت القلوب لولا أن القوم على شواطي بحر الدموع نزول‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

خذي حديثك في نفس من النـفـس *** وَجْدُ المَشوق المُعَنَّى غير ملتبـس

الماء في ناظري والنار في كبـدي *** إن شئتِ فاغترفي أو شئت فاقتبسي

أشد ما على المحب من مقاساة الحب سماع اللوم، واعجباً من خلي يعذل ذا شجا ويحك خل شأنه وشانه‏.‏

فيا حبهم زدني جوى كل لـيلة *** ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

لما أسلم سعد بن أبي وقاص قالت له أمه‏:‏ والله لا آكل ولا أشرب ولا يظللني سقف بيت حتى تكفر بمحمد‏.‏ فقال‏:‏ اسمعي يا أماه، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت واحدة بعد واحدة لم أكفر بمحمد‏.‏ ويحها ما خبرت خبر المحبة‏؟‏ متى وقع السلو في حب صادق‏؟‏ للمتنبي‏:‏

عذل العواذل حول قلبي التـائه *** وهوى الأحبة منه في سـودائه

القلب أعلـم يا عـذول بـدائه *** وأحق منك بجفنـه وبـمـائه

فومن أحب لأعصينك في الهوى *** قسماً به وبحسـنـه وبـهـائه

أأحبـه وأحـب فـيه مـلامة *** إن الملامة فيه مـن أعـدائه

لا تعذل المشتاق في أشـواقـه *** حتى تكون حشاك في أحشـائه

واعجباً لعاذل في حب ما ذاقه، وآمر بهجر حبيب ما شاقه‏.‏

وماذا على مفرد بالعـراق *** تذكر بالرمل عهداً فحنـا

وإني لكـل شـج عـاذر *** إذا ناح من طرب أو تغنى

كانت أم الربيع بن خيثم إذا رأت قلقه بالليل‏.‏ قالت‏:‏ يا بني لعلك قتلت قتيلاً فيقول يا أماه قتلت نفسي، قيل لعابد كان ينتحب‏:‏ إنك تفسد على المصلين صلاتهم بارتفاع صوتك‏.‏ فقال‏:‏ إن حزن القيامة أورثني دموعاً غزارا، فأنا أستريح إلى ذرفها أحيانا‏.‏

مهلاً عذول صليت نار جوانحـي *** وغرقت في تيار دمعي المسيل

هذي حشاي لديك فانظر هل ترى *** قلباً فإن صادفت قلباً فـاعـذل

غاية العاذلين إيصال اللوم إلى الأسماع، فأما القلوب فلا سبيل إليها‏.‏

سيان إن لاموا وإن عـذروا *** ما لي عن الأحباب مصطبر

لا غرو إن أغرى بحبـهـم *** إذ ليس لي في غيرهم وطر

لا بد لي منهم وإن تـركـوا *** قلبي بنار الهجر يستـعـر

وعلي أن أرضى بما صنعوا *** وأطيعهم في كل ما أمـروا

لو رأيت المحب يهرب من العذل إلى فلوات الخلوات، فإذا ناوله الوجد كأس الدموع اقترح عليه غناء الحمائم‏.‏

ذكر الأحباب والـوطـنـا *** والصبا والألف والسكـنـا

فبكى شـجـواً وحـق لـه *** مدنف بالشوق حلف ضنى

أبعدت مرمى به رجـمـت *** من خراسان به الـيمـنـا

من لمشـتـاق تـمـيلـه *** ذات سجع ميلت فـنـنـا

لم تعرض في الحنين بمـن *** مسعـد إلا وقـلـت أنـا

لك يا ورقـاء أسـوة مـن *** لم تذيقي طرفه الوسـنـا

بك أنسي مثل أنسـك بـي *** فتعالى نبد مـا كـمـنـا

نتشـاكـى مـا نـجـن إذا *** بحت شكوى صحت واحزنا

أنا لا أنت البـعـيد هـوى *** أنا لا أنت الغريب هـنـا

أنا فـرد يا حـمـام وهـا *** أنت والألف القرين ثـنـا

اسرحا رأد النهـار مـعـاً *** واسكنا جنح الدجى غصنـا

وابكيا يا جـارتـي لـمـا *** لعبت أيدي الفـراق بـنـا

أين قلبي ما صنـعـت بـه *** ما أرى صدري له وطنـا

كان يوم النفر وهو مـعـي *** فأبى أن يصحب الـبـدنـا

أبه حادي الـرفـاق حـدا *** أم له داعي الفراق عنـى